فصل: تفسير الآية رقم (28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (27):

{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ}.
أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَتْلُوَ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ رَبُّهُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: {وَاتْلُ} [18/ 27]، شَامِلٌ لِلتِّلَاوَةِ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ، وَالتِّلْوِ: بِمَعْنَى الِاتِّبَاعِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَمْرِهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَاتِّبَاعِهِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} الْآيَةَ [29/ 45]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ النَّمْلِ: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} الْآيَةَ [27/ 91، 92]، {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [73/ 4]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ بِتِلَاوَتِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَلَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [6/ 106]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [43/ 43]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [46/ 9]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [10/ 15]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بَعْضَ النَّتَائِجِ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَاتِّبَاعِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [35/ 29]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [2/ 121]، وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}.
بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ؛ أَيْ: لِأَنَّ أَخْبَارَهَا صِدْقٌ وَأَحْكَامَهَا عَدْلٌ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُبَدِّلَ صِدْقَهَا كَذِبًا، وَلَا أَنْ يُبَدِّلَ عَدْلَهَا جَوْرًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [6/ 115]، فَقَوْلُهُ: {صِدْقًا} يَعْنِي فِي الْإِخْبَارِ، وَقَوْلُهُ: {عَدْلًا} أَيْ: فِي الْأَحْكَامِ. وَكَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [6/ 34].
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَنَّهُ هُوَ يُبَدِّلُ مَا شَاءَ مِنَ الْآيَاتِ مَكَانَ مَا شَاءَ مِنْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} الْآيَةَ [16/ 101]، وَقَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [2/ 106]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [18/ 27].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}.
أَصْلُ الْمُلْتَحَدِ: مَكَانُ الِالْتِحَادِ وَهُوَ الِافْتِعَالُ: مِنَ اللَّحْدِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ مَيْلٌ فِي الْحَفْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [41/ 40]، وَقَوْلُهُ: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} الْآيَةَ [7/ 180]، فَمَعْنَى اللَّحْدِ وَالْإِلْحَادِ فِي ذَلِكَ: الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ، وَالْمُلْحِدُ الْمَائِلُ عَنْ دِينِ الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الصَّرْفِ أَنَّ الْفِعْلَ إِنْ زَادَ مَاضِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَمَصْدَرُهُ الْمِيمِيُّ وَاسْمُ مَكَانِهِ وَاسْمُ زَمَانِهِ كُلُّهَا بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ كَمَا هُنَا، فَالْمُلْتَحَدُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَكَانُ الِالْتِحَادِ، أَيِ: الْمَكَانُ الَّذِي يَمِيلُ فِيهِ إِلَى مَلْجَأٍ أَوْ مَنْجًى يُنْجِيهِ مِمَّا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجِدُ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا؛ أَيْ: مَكَانًا يَمِيلُ إِلَيْهِ وَيَلْجَأُ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يُبَلِّغْ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَيُطِعْهُ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} [72/ 21- 22]، وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} الْآيَةَ [69/ 44- 47].
وَكَوْنُهُ لَيْسَ لَهُ مُلْتَحَدٌ، أَيْ: مَكَانٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ تَكَرَّرَ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَالْمَنَاصِ، وَالْمَحِيصِ، وَالْمَلْجَأِ، وَالْمَوْئِلِ، وَالْمَفَرِّ، وَالْوَزَرِ، كَقَوْلِهِ: {فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [38/ 3]، وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [4/ 121]، وَقَوْلِهِ: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [50/ 36]، وَقَوْلِهِ: {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [42/ 47]، وَقَوْلِهِ: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [18/ 58]،
وَقَوْلِهِ: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ} [75/ 10- 11]، فَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ انْتِفَاءُ مَكَانٍ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ وَيَعْتَصِمُونَ بِهِ.

.تفسير الآية رقم (28):

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.
أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ، أَيْ: يَحْبِسَهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ، لَا يُرِيدُونَ بِدُعَائِهِمْ إِلَّا رِضَاهُ جَلَّ وَعَلَا.
وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ كَعَمَّارٍ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَحْوِهِمْ، لَمَّا أَرَادَ صَنَادِيدُ الْكُفَّارِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُدَهُمْ عَنْهُ، وَيُجَالِسَهُمْ بِدُونِ حُضُورِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّ اللَّهَ كَمَا أَمَرَهُ هُنَا بِأَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ أَمْرَهُ بِأَلَّا يَطْرُدَهُمْ، وَأَنَّهُ إِذَا رَآهُمْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [6/ 52- 54]، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا} [80/ 1- 11]، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَا طَلَبَهُ الْكُفَّارُ مِنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرْدِهِ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَضُعَفَاءَهُمْ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ وَازْدِرَاءً بِهِمْ، طَلَبَهُ أَيْضًا قَوْمُ نُوحٍ مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ طَرْدِهِمْ أَيْضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [26/ 111]، وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ أَيْضًا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [11/ 27]، وَقَالَ عَنْ نُوحٍ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ طَرْدِهِمْ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [26/ 114]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [11/ 29- 30].
وَقَوْلُهُ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} [18/ 28]، فِيهِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَادَّةَ الصَّبْرِ تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا لِلْمَفْعُولِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ أَوْ عَنْتَرَةَ:
فَصَبَرَتْ عَارِفَةً بِذَلِكَ حُرَّةً ** تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ

وَالْغَدَاةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالْعَشِيُّ: آخِرُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، أَيْ: يُصَلُّونَ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْآيَةَ تَشْمَلُ أَعَمَّ مِنْ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ تَعْدُوَ عَيْنَاهُ عَنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَفُقَرَائِهِمْ، طُمُوحًا إِلَى الْأَغْنِيَاءِ وَمَا لَدَيْهِمْ مِنْ زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَعْنَى: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ} [18/ 28]، أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُهُمْ عَيْنَاكَ وَتَنْبُو عَنْ رَثَاثَةِ زِيِّهِمْ، مُحْتَقِرًا لَهُمْ طَامِحًا إِلَى أَهْلِ الْغِنَى وَالْجَاهِ وَالشَّرَفِ بَدَلًا مِنْهُمْ، وَعَدَا يَعْدُو: تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا إِلَى الْمَفْعُولِ وَتَلْزَمُ، وَالْجُمْلَةُ فِي قَوْلِهِ: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي مَحَلِّ حَالٍ وَالرَّابِطُ الضَّمِيرُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارِعِ ثَبَتْ ** حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الْوَاوِ خَلَتْ

وَصَاحِبُ الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ الضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {عَيْنَاكَ}، وَإِنَّمَا سَاغَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضَافَ هُنَا جُزْءٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَلَا تُجِزْ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ لَهْ إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَهُ أَوْ كَانَ جُزْءَ مَا لَهُ أُضِيفَا أَوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلَا تَحِيفَا وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ طُمُوحِ الْعَيْنِ إِلَى زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مَعَ الِاتِّصَافِ بِمَا يُرْضِيهِ جَلَّ وَعَلَا مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ، كَمُجَالَسَةِ فَقُرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، أَشَارَ لَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [20/ 130- 131]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} الْآيَةَ [15/ 87].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.
نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ طَاعَةِ مَنْ أَغْفَلَ اللَّهُ قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِهِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطَا، وَقَدْ كَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ نَهْيَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اتِّبَاعِ مِثْلِ هَذَا الْغَافِلِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الْمُتَّبَعِ هَوَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [76/ 24]، وَقَوْلِهِ: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} الْآيَةَ [33/ 48]،
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [68/ 8- 12] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ أَمَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُتَوَلِّينَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ غَيْرَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ؛ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} [18/ 28]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَعْرِضُ لِلْعَبْدِ مِنْ غَفْلَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَا يَقَعُ شَيْءٌ الْبَتَّةَ كَائِنًا مَا كَانَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، جَلَّ وَعَلَا، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الْآيَةَ [76/ 30]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [6/ 107]، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [32/ 13]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [6/ 35]، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الْآيَةَ [2/ 7]، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [17/ 46]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، لَا يَقَعُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. فَمَا يَزْعُمُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَيُحَاوِلُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ دَائِمًا تَأْوِيلَ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى نَحْوِ مَا يُطَابِقُهُ مِنِ اسْتِقْلَالِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَإِرَادَتِهِ فَأَفْعَالُهُ دُونَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا، وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.
وَمَعْنَى اتِّبَاعِهِ هَوَاهُ: أَنَّهُ يَتْبَعُ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَتَهْوَاهُ مِنَ الشَّرِّ، كَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي.
وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} قِيلَ: هُوَ مِنَ التَّفْرِيطِ الَّذِي هُوَ التَّقْصِيرُ، وَتَقْدِيمُ الْعَجْزِ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، أَيْ: كَانَتْ أَعْمَالُهُ سَفَهًا وَضَيَاعًا وَتَفْرِيطًا، وَقِيلَ: مِنَ الْإِفْرَاطِ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، كَقَوْلِ الْكُفَّارِ الْمُحْتَقِرِينَ لِفُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: نَحْنُ أَشْرَافُ مُضَرَ وَسَادَاتُهَا! إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَكَ جَمِيعُ النَّاسِ، وَهَذَا مِنَ التَّكَبُّرِ وَالْإِفْرَاطِ فِي الْقَوْلِ، وَقِيلَ فُرُطًا أَيْ: قِدَمًا فِي الشَّرِّ. مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَطَ مِنْهُ أَمْرٌ، أَيْ: سَبَقَ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عِنْدِي بِحَسَبَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فُرُطًا: أَيْ: مُتَقَدِّمًا لِلْحَقِّ وَالصَّوَابِ، نَابِذًا لَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ. مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ فُرُطٌ، أَيْ: مُتَقَدِّمٌ لِلْخَيْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
وَلَقَدْ حَمَيْتُ الْخَيْلَ تَحْمِلُ شَكَّتِي ** فُرُطٌ وِشَاحِي إِذْ غَدَوْتُ لِجَامَهَا

وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ تَرْجِعُ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ كُلُّهَا، كَقَوْلِ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ فُرُطًا أَيْ: ضَيَاعًا. وَكَقَوْلِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ: {فُرُطًا} أَيْ: سَرَفَا، كَقَوْلِ الْفَرَّاءِ: {فُرُطًا} أَيْ: مَتْرُوكًا. وَكَقَوْلِ الْأَخْفَشِ: {فُرُطًا} أَيْ: مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ.

.تفسير الآية رقم (29):

{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ}.
أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، وَفِي إِعْرَابِهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ: {الْحَقَّ} مُبْتَدَأٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرُهُ، أَيِ: الْحَقُّ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، الْمُتَضَمِّنُ لِدِينِ الْإِسْلَامِ كَائِنٌ مَبْدَؤُهُ مِنْ رَبِّكُمْ جَلَّ وَعَلَا، فَلَيْسَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ، وَلَا مِنِ افْتِرَاءِ الْكَهَنَةِ، وَلَا مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ. بَلْ هُوَ مِنْ خَالِقِكُمْ جَلَّ وَعَلَا، الَّذِي تَلْزَمُكُمْ طَاعَتُهُ وَتَوْحِيدُهُ، وَلَا يَأْتِي مِنْ لَدُنْهُ إِلَّا الْحَقُّ الشَّامِلُ لِلصِّدْقِ فِي الْأَخْبَارِ، وَالْعَدْلُ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَا حَقَّ إِلَّا مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ الْحَقُّ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرُهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [2/ 147]، وَقَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [3/ 60]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِحَسَبَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَيْسَ هُوَ التَّخْيِيرُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ. وَالتَّهْدِيدُ بِمِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّخْيِيرُ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ أَنَّهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} وَهَذَا أَصْرَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ، إِذْ لَوْ كَانَ التَّخْيِيرُ عَلَى بَابِهِ لَمَا تَوَعَّدَ فَاعِلَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ الْمُخَيَّرَ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {أَعْتَدْنَا} [18/ 29]، أَصْلُهُ مِنَ الِاعْتَادِ، وَالتَّاءُ فِيهِ أَصْلِيَّةٌ وَلَيْسَتْ مُبْدَلَةً مِنْ دَالٍ عَلَى الْأَصَحِّ؛ وَمِنْهُ الْعَتَادُ بِمَعْنَى الْعُدَّةِ لِلشَّيْءِ، وَمَعْنَى: {أَعْتَدْنَا}: أَرْصَدْنَا وَأَعْدَدْنَا، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ هُنَا: الْكُفَّارُ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، وَقَدْ قَدَّمَنَا كَثْرَةَ إِطْلَاقِ الظُّلْمِ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْقُرْآنِ. كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [31/ 13]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [2/ 254]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [10/ 106]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الظُّلْمَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ وَضْعُ الْعِبَادَةِ فِي مَخْلُوقٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الظُّلْمِ عَلَى النَّقْصِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [18/ 33]، وَأَصْلُ مَعْنَى مَادَّةِ الظُّلْمِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلِأَجَلِ ذَلِكَ قِيلَ الَّذِي يَضْرِبُ اللَّبَنَ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ: ظَالِمٌ لِوَضْعِهِ ضَرْبَ لَبَنِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّ ضَرْبَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ يُضِيعُ زُبْدَهُ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي ** وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكِدِ الظَّلِيمُ

فَقَوْلُهُ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي، أَيْ: ضَرَبْتُهُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ فِي سِقَاءٍ لَهُ ظَلَمَهُ بِنَحْوِ ذَلِكَ:
وَصَاحِبُ صِدْقٍ لَمْ تَرِبْنِي شِكَاتُهُ ** ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ

وَفِي لُغْزِ الْحَرِيرِيِّ فِي مَقَامَاتِهِ فِي الَّذِي يَضْرِبُ لَبَنَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ، قَالَ: أَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ ظَالِمًا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَانَ عَالِمًا. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُمْ لِلْأَرْضِ الَّتِي حُفِرَ فِيهَا وَلَيْسَتْ مَحَلَّ حَفْرٍ فِي السَّابِقِ: أَرْضٌ مَظْلُومَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
إِلَّا الْأَوَارِي لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ** وَالنُّؤَيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ

وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَظْلُومَةَ فِي الْبَيْتِ هِيَ الَّتِي ظَلَمَهَا الْمَطَرُ بِتَخَلُّفِهِ عَنْهَا وَقْتَ إِبَّانِهِ الْمُعْتَادَ غَيْرُ صَوَابٍ. وَالصَّوَابُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَا قَالُوا لِلتُّرَابِ الْمُخْرَجِ مِنَ الْقَبْرِ عِنْدَ حَفْرِهِ ظَلِيمٌ بِمَعْنَى مَظْلُومٌ؛ لِأَنَّهُ حَفْرٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَفْرِ الْمُعْتَادِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَصِفُ رَجُلًا مَاتَ وَدُفِنَ:
فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ ** عَلَى الْعَيْشِ مِرْوَدٌ عَلَيْهَا ظَلِيمُهَا

وَقَوْلُهُ: {أَحَاطَ بِهِمْ} أَيْ: أَحْدَقَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَوْلُهُ: {سُرَادِقُهَا} [18/ 29]، أَصْلُ السُّرَادِقِ وَاحِدُ السُّرَادِقَاتِ الَّتِي تُمَدُّ فَوْقَ صَحْنِ الدَّارِ، وَكُلُّ بَيْتٍ مِنْ كُرْسُفٍ فَهُوَ سُرَادِقٌ. وَالْكُرْسُفُ: الْقُطْنُ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ أَوِ الْكَذَّابِ الْحِرْمَازِيِّ:
يَا حَكَمُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ ** سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودِ

وَبَيْتٌ مُسَرْدَقٌ: أَيْ مَجْعُولٌ لَهُ سُرَادِقٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ سَلَامَةَ بْنِ جَنْدَلٍ يَذْكُرُ أبريويز وَقَتْلَهُ لِلنُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ تَحْتَ أَرْجُلِ الْفِيَلَةِ:
هُوَ الْمُدْخِلُ النُّعْمَانَ بَيْتًا سَمَاؤُهُ ** صُدُورُ الْفُيُولِ بَعْدَ بَيْتٍ مُسَرْدَقِ

هَذَا هُوَ أَصْلُ مَعْنَى السُّرَادِقِ فِي اللُّغَةِ. وَيُطْلِقُ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ عَلَى الْحُجْرَةِ الَّتِي حَوْلَ الْفُسْطَاطِ.
وَأَمَّا الْمُرَادُ بِالسُّرَادِقِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ مَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ إِحْدَاقُ النَّارِ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: {سُرَادِقُهَا}: أَيْ: سُورُهَا، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: {سُرَادِقُهَا}: سُورٌ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: {سُرَادِقُهَا}: عُنُقٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ فَيُحِيطُ بِالْكُفَّارِ كَالْحَظِيرَةِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ دُخَانٌ يُحِيطُ بِهِمْ. وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُرْسَلَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [77/ 30- 31]، وَالْوَاقِعَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [56/ 43- 44].
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ بِالدُّنْيَا. وَرَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْبَحْرُ هُوَ جَهَنَّمُ ثُمَّ تَلَا» نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا «ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا أَبَدًا مَا دُمْتُ حَيًّا وَلَا تُصِيبُنِي مِنْهَا قَطْرَةٌ» ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِسُرَادِقِ النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ كِثَفُ كُلِّ جِدَارٍ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً» وَأَخْرَجَهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. انْتَهَى مِنَ الْقُرْطُبِيِّ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. قَالَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَتَبِعَهُ الشَّوْكَانِيُّ. وَحَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورُ عَنِ الْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ النَّارَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [7/ 41]، وَقَالَ: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [39/ 16]، وَقَالَ: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [21/ 39]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا، يَعْنِي إِنْ يَطْلُبُوا الْغَوْثَ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكَرْبِ يُغَاثُوا، يُؤْتَوْا بِغَوْثٍ هُوَ مَاءٌ كَالْمُهْلِ. وَالْمُهْلُ فِي اللُّغَةِ: يُطْلَقُ عَلَى مَا أُذِيبَ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ، كَذَائِبِ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى دُرْدِيِّ الزَّيْتِ وَهُوَ عَكَرُهُ. وَالْمُرَادُ بِالْمُهْلِ فِي الْآيَةِ: مَا أُذِيبُ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: دُرْدِيِّ الزَّيْتِ. وَقِيلَ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقَطِرَانِ. وَقِيلَ السُّمُّ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ إِغَاثَةٍ فِي مَاءٍ كَالْمُهْلِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَكَيْفَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [18/ 29].
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ. وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ:
غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ تَقَتَّلَ عَامِرٌ ** يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ

فَمَعْنَى قَوْلِهِ أُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ: أَيْ: أُرْضُوا بِالسَّيْفِ. يَعْنِي لَيْسَ لَهُمْ مِنَّا إِرْضَاءً إِلَّا بِالسَّيْفِ. وَقَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ:
وَخَيْلٌ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ** تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ

يَعْنِي لَا تَحِيَّةَ لَهُمْ إِلَّا الضَّرْبُ الْوَجِيعُ. وَإِذَا كَانُوا لَا يُغَاثُونَ إِلَّا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا إِغَاثَةَ لَهُمُ الْبَتَّةَ. وَالْيَاءُ فِي قَوْلِهِ: {يَسْتَغِيثُوا} وَالْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ: {يُغَاثُوا} كِلْتَاهُمَا مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ؛ لِأَنَّ مَادَّةَ الِاسْتِغَاثَةِ مِنَ الْأَجْوَفِ الْوَاوِيِّ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّ الْعَيْنَ أُعِلَّتْ لِلسَّاكِنِ الصَّحِيحِ قَبْلَهَا، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
لِسَاكِنٍ صَحَّ انْقُلِ التَّحْرِيكَ مِنْ ذِي لِينٍ آتِ عَيْنَ فِعْلٍ كَأَبِنْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَشْوِي الْوُجُوهَ، أَيْ: يَحْرِقُهَا حَتَّى تَسْقُطَ فَرْوَةُ الْوَجْهِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ قَالَ: {كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}، هُوَ كَعَكَرِ الزَّيْتِ فَإِذَا قَرُبَ إِلَيْهِ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكَافِي الشَّافِ، فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافِ: أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَاسْتَغْرَبَهُ وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ، وَتُعُقِّبَ قَوْلُهُ بِأَنَّ أَحْمَدَ وَأَبَا يَعْلَى أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ، وَبِأَنَّ ابْنَ حِبَّانَ وَالْحَاكِمَ أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِئْسَ الشَّرَابُ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ فِيهِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: بِئْسَ الشَّرَابُ ذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي يُغَاثُونَ بِهِ. وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي قَوْلِهِ: {سَاءَتْ} عَائِدٌ إِلَى النَّارِ.
وَالْمُرْتَفَقُ: مَكَانُ الِارْتِفَاقِ. وَأَصْلُهُ أَنْ يَتَّكِئَ الْإِنْسَانُ مُعْتَمِدًا عَلَى مِرْفَقِهِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِالْمُرْتَفَقِ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى. قِيلَ مُرْتَفَقًا. أَيْ: مَنْزِلًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ. وَقِيلَ مَقَرًّا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ. وَقِيلَ مَجْلِسًا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْعُتْبِيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُرْتَفَقًا أَيْ: مُجْتَمَعًا. فَهُوَ عِنْدَهُ مَكَانُ الِارْتِفَاقِ بِمَعْنَى مُرَافَقَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي النَّارِ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْأَقْوَالِ أَنَّ النَّارَ بِئْسَ الْمُسْتَقَرُّ هِيَ، وَبِئْسَ الْمَقَامُ هِيَ. وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [25/ 66]، وَكَوْنُ أَصْلِ الِارْتِفَاقِ هُوَ الِاتِّكَاءُ عَلَى الْمِرْفَقِ، مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
نَامَ الْخَلِيُّ وَبِتُّ اللَّيْلَ مُرْتَفِقًا ** كَأَنَّ عَيْنِيَ فِيهَا الصَّابُ مَذْبُوحُ

وَيُرْوَى وَبِتُّ اللَّيْلَ مُشْتَجِرًا وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِي الْبَيْتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَعْشَى بَاهِلَةَ:
قَدْ بِتُّ مُرْتَفِقًا لِلنَّجْمِ أَرْقُبُهُ ** حَيْرَانَ ذَا حَذَرٍ لَوْ يَنْفَعُ الْحَذَرُ

وَقَوْلُ الرَّاجِزِ:
قَالَتْ لَهُ وَارْتَفَقَتْ أَلَا فَتًى ** يَسُوقُ بِالْقَوْمِ غَزَالَاتِ الضُّحَا

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ صِفَاتِ هَذَا الشَّرَابِ، الَّذِي يُسْقَى بِهِ أَهْلُ النَّارِ، جَاءَ نَحْوُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [6/ 70]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [47/ 15]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [88/ 5]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [55/ 44]، وَالْحَمِيمُ الْآنِي: مِنَ الْمَاءِ الْمُتَنَاهِي فِي الْحَرَارَةِ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} الْآيَةَ [14/ 16- 17]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} [37/ 67]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [56/ 54، 55].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} الْآيَةَ [78/ 24- 25]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [38/ 57- 58]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طُرُقًا مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ يُونُسَ.